صحيفة إلكترونية استقصائية ساخرة
after header mobile

after header mobile

أبناء الجالية الإسلامية بإيطاليا بين صراع التسوية وضياع الهوية

كم هي كثيرة المشاكل التي عصفت  بالأسر الإسلامية بالمهجر ,وكم هي كبيرة المخلفات السوسيوثقافية التي فاقت الأزمة الاقتصادية الأوروبية الحالية في عمقها وضراوتها.وليست الساحة الإيطالية بمنأى عن هذه الظاهرة  التي أنّبت الكثير من الآباء وحيرت العديد من الأمهات وتنبهت لها بعض الفعاليات عن مصير أبناء وبنات في كم من أسرة مسلمة بهذا البلد الأوروبي. تلك الخطورة التي لم يكترث لها أحد إلا بعد فوات الأوان وجرد الحسابات والوقوف على النتائج المخيفة.هذا البلد الذي شاءت الظروف أن يصبح قبلة أوروبية متأخرة لنفوذ الهجرة والفجوة المتبقية بمنطقة شينكن ,كبصيص أمل لفلول جيوش  المهاجرين التي لم تتوقف لحد الآن منذ أواسط الثمانينات للانكباب عليه من عدة عوالم واختلاف عرقيات.علما أن الشعب الإيطالي هو بدوره لم ينفض عنه غبار الهجرة بعد وليس على أهبة  لاستقبال الملايين من المهاجرين وبالتالي التعامل والتأقلم مع ثقافاتهم وهوياتهم وأعراقهم ولا سيّما العربية والإسلامية منها .حيث أن هناك حساسية مفرطة وكراهية مبطنة تعود لعوامل تاريخية ودوافع ثقافية ودينية وسياسية لا يسع الموضوع للتوغل في حيثياتها وأسبابها .ومن هي الأيادي التي تحركها والجهة التي تقف وراءها؟

في حين لم تكن الجاليات العربية والإسلامية ناضجة بعد ثقافيا وفكريا كون سوادها الأعظم يتمثل في صورة العامل البسيط الذي يفكر في لقمة عيش مبللة بالعرق ودفء عش يعيد له الرمق بعد طول سنين كلها محطات انتظار وشحن وأرق.انتهت بتقنين وضعية المهاجرين وفتح باب الأوراق مما دفق سيول الأسر وسهل مجاري جمع الشمل والالتحاق بذويها والسعي وراء العيش والأرزاق. سرعان ما بدأت الحياة تدبّ في صفوف الجالية فظهرت المرأة المسلمة تزاحم المارة في شوارع المدن والقرى الإيطالية وهي تجر طفلها أو تحمله كما تحمل ثقل الهوية ومخلفات الغربة.لم يكن لها سابق علم أو أدنى شك بأنها مستهدفة,لم يكن لها أي إحساس أو معرفة بأنها ستكون مطالبة بذوبان الهوية باسم الاندماج والحرية وسلخ أبنائها من أي موروثات وطنية أو مخزونات روحية تختلف قلبا وقالبا مع وحي ثقافة المهجر. والخطير في الأمر أن هذه العيّنات من فلذات الأكباد لم تكن على قدر وافر من الحصانة الفكرية والعقائدية تمكنها من التمييز ومعرفة الأخطار المحدقة بها وكيفية النجاة من طمس هويتها وتجنب عملية السقوط في فرن الذوبان الذي تفشى  انتشاره في أوساطها انتشار النار في الهشيم بسرعة جنونية يوما بعد يوم .والذي لم يكترث إليه الآباء إلا في وقت متأخر ضاع على إثره الكثير والبقية على باب الانتظار غالبيتها فتيات بين فكي كماشة الضياع واللامبالاة .سقوط مفاجئ في عالم مجهول النتائج ومستقبل مبهم أثر سلبيا على النضج المعرفي وسعى  في تعطيل المحصول العلمي والقدرات الفردية ,حيث تقترب من ثلاثة عقود ولم تنتج الجالية المغربية مثلا إلا أعدادا  ضئيلة جدا تعد على رؤوس الأصابع من المتخرجين التي استطاعت أن تحصل على الدكتوراه والدراسات العليا لحد الآن .كما تتحدث آخر دراسة أوروبية  على أن إيطاليا تحتل الرتبة الأخيرة على قائمة المحاصيل العلمية والمعرفية للدول الأوروبية.

فهذه الإشكالية غالبا ما تكون نتيجة قصور في النضج الثقافي أو كارثة الجهل اللغوي الشيء الذي سحب البساط من تحت أرجل الكثير من الآباء والأمهات وأفقدهم روح مدّ جسور التواصل وبناء العلاقات الإنسانية مع أبنائهم من جهة ومع باقي المجتمع من جهة أخرى.فاتحا بذلك  الباب على مصراعيه لكل السموم والفيروسات  من أفكار ومغريات  تفيض بها  وسائل البرامج والمسلسلات والأفلام وتغص بها صفحات الكتب والصحف والجرائد وتعج به المقررات الدراسية والمحاضرات المنتشرة هنا وهناك ومن هذا الجمعية وتلك.وبتسخير بعض الفعاليات المدنية لتشتيت العائلات وتشريد الأطفال بين عاقرات الشعب الإيطالي وزرع فتيل النزاع بين المرأة وزوجها والبنت وأبيها وتشجيعهما على رفع دعاوى ضد أزواجهن وآبائهن تحت طائلة التضييق على الحريات والتشدد وضرب المعالم الإسلامية,مما خلّف مصائب وويلات مازالت آثارها موشومة على جبين كثير من الأسر العربية والإسلامية لحد الآن, لا لذنب اقترفته إلا لأنها رفضت مفاسد المجتمع الإيطالي وحملت على عاتقها مهمة رأب الصدع، وردم هذه الفجوة متشبثة بالقيم ومتصدية لسلخ الهوية.

في هذا الجو المشحون بالمتناقضات المعادية للهوية والشخصية الإسلامية والعربية يتربى الطفل ويصقل مفاهيمه ومعتقداته وغالبا ما ينكب عليها طائعا ويتعلق بها ضائعا تعلّق العاشق بعشيقه ,مما يدخله في صراع ثقافي دائم مع ثقافة الأهل محدثا تصادما مدويا بين الحضارتين والثقافتين .إذ يصبح للأسف الشديد مدافعا شديدا وخصما لدودا عن مبادئ وقيم لا تمت لجذوره بصلة ومهاجما شرسا ضد مكونات هويته الأصلية. رافضا التعامل والانصياع لها كونها لا تتطابق وتنسجم مع عالمه الخارجي المعاش وصولا لمرحلة انسلاخ الهوية وهنا يكمن بيت القصيد. عندئذ تركبه أمواج التيه بلا التفاتة بين دروب العصيان ودور الحداثة,تتقاذفه التيارات المغريات والعواصف التائهات في كل النواحي والاتجاهات .وتحضرني هنا مقولة لإحدى بابا الكنيسة حيث قال عن أبناء المسلمين: الجيل الأول نتقاسمه معهم بالنصف والجيل القادم سيكون كله لنا.

فالوترة التي تنغم عليها الفلسفة الإيطالية هي الاستيلاء على العضو الأضعف للتمكن من التحكم في هوية الآخر والحصيلة أعظم وأوفر إن كانت الضحية امرأة فالخسارة يومها تكون قوية وشاملة,لأنها بمثابة معلمة ومربية الأجيال فإما أن تكون ملقنة الإيمان  أو تكون مزرعة الإلحاد .

ومن باب التلميح لا التجريح فالمرأة المغربية ليست في أفضل حال من غيرها فهي تفتقر إلى المساعدة التربوية حتى تتمكن من المحافظة على الهوية والموروث الثقافي والديني وغرس محبة الجذور واستيعاب القيم والأصول لتحصين الطفل من التيارات الخارجية والبؤر الإلحادية.كما لا يخف على أحد على أن الجهل باللغتين العربية والإيطالية إلى جانب ضعف المستوى التعليمي أثر سلبا على مردود التربية السليمة وأخفق كمّا وكيْفا في زرع بذور التعاليم والقيم التي لم تواكب نمو الطفل منذ الصغر. في حين أن التقصير وعدم ترغيب وتعوّد هذا الطفل على زيارة بلده الأصلي كل عطلة صيفية وخاصة في المناسبات الدينية والوطنية يتولد عنه إحساس بالغربة مما يجعله يشعر على أنه مهاجر في كلتا البلدين ,ويخلق لديه جوا مشحونا بالضبابية وفقدان التلاحم مع مكونات هذه الهوية وتلك الروح الوطنية والمقومات الدينية الرائعة.

 

شيء ثالث لا يجب التغاضي عنه هو انتشار الأخلاق الغير الكريمة والتصرفات العقيمة داخل أفراد الجالية والتي ساعدت في تقسيم المقسم وتجزيء المجزأ ورسم الصورة السلبية التي تروج لها جميع المنابر الإعلامية المرئية والمسموعة والمكتوبة.

كما أريد أن أختم هذه المقالة المتواضعة بأن الوالدين يتحملان المسئولية العظمى ثم تليهما تقاسم المسؤوليات أولا بأول بدءا ببلد المنشأ ونهاية ببلد الملجأ عن تربية وتوجيه البنات كالبنين كونهم أمانة في أعماقهم يتحملون مسئوليتهم الكاملة في الدنيا والآخرة كما جاء في الحديث الصحيح للرسول  صلى الله عليه وسلم “كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته” كما أنه من ناحية أخرى ,يستحيل قطعا لهؤلاء الضحايا من الأبناء الاندماج والتواصل مع محيطهم العربي والإسلامي وإمكانية  معرفة الحقوق والواجبات الدينية والوطنية ,والحصول على واجهة إيمان دفاعية وحصانة وقائية, دون المعرفة الحقّة باللغة العربية والدراية الموفقة بآفاق التربية الوطنية وأعماق المنهجية الإسلامية السمحة على أقل الاحتمالات.

 

د.بدران محمد/ايطاليا

 

www.maarifpress.com

تعليقات الزوار
Loading...
footer ads

footer ads