صحيفة إلكترونية استقصائية ساخرة
after header mobile

after header mobile

بين ادارة الصراع وتسوية الصراع من يفوز الفلسطينيين أم الاسرائيليين؟

 

 


 

هذه الوثيقة هي وثيقة سياسة كتبت على أثر نشر الكتاب: ‘موانع السلام في الصراع الاسرائيلي الفلسطيني’ الصادر عن معهد القدس لابحاث السلام بتعاون مع صندوق أديناور. لهذه الوثيقة هدفان: 1- ان تعرض باختصار موانع السلام في الصراع الاسرائيلي الفلسطيني التي تمنع أو تصعب تسويته مع الفحص عن عمقها وصعوبتها النسبية. 2- اقتراح استراتيجيات مواجهة لهذه الموانع والفحص عن مبلغ قدرتها على التغلب على هذه الموانع في الظروف الحالية.

موانع السلام

تم بحث اسباب فشل مسيرة اوسلو ونشوب المواجهة العنيفة الاسرائيلية الفلسطينية في ايلول 2000 بتوسع في المذكرات التي كتبها المشاركون في مسيرة السلام وجرى تحليلها بأبحاث اكاديمية كثيرة. عرض بعضهم خصائص الصراع الاسرائيلي الفلسطيني بأنه عنيد ولا يُتحكم فيه وغير قابل للحل. وعلق آخرون فشل المحادثات في عدم نضج الطرفين للقيام بالتنازلات المطلوبة لتسوية الصراع، وادارة مختلة للتفاوض، وحصر العناية في تسوية بينية لا في تسوية دائمة، وعدم التطرق الى الروايتين الوطنيتين للطرفين وقضايا العدل والنزاهة، وفشل قادة لصوغ استراتيجية سلام واضحة ومنظمة، وتجنيد التأييد العام لمسيرة السلام. وكان هناك من حصروا عنايتهم ايضا في عدم نجوع الوسيط الامريكي.
منذ كان مؤتمر طابا الذي عقد في كانون الثاني 2001، لم تتم مسيرة سياسية حتى 2008، برغم أنه أُثيرت خلال هذه المدة اقتراحات مختلفة لتسوية الصراع في ضمنها المبادرة العربية، ومبادرة بوش، وخريطة الطريق، والانتساب الوطني، ومبادرة جنيف ومبادرة السعودية ومؤتمر أنابوليس. وبرغم أن خطط السلام على اختلافها قد أخذت في الحسبان جزءا من الموانع التي أفضت الى فشل المسيرة السياسية بل حاولت ان تواجهها بقدر ما، فانها لم تفحص عن هذه الموانع فحصا عميقا. ولم تفحص ايضا عن استراتيجيات حقيقية لابطالها من اجل التمكين من تسوية الصراع بطرق سلمية. على أثر مؤتمر أنابوليس تمت المسيرة السياسية في مسارين: اولمرت ـ أبو مازن ولفني ـ أبو العلاء، وتثبت صعوبة تجديدها في السنتين الاخيرتين الصعوبة في تسوية الصراع. ففضلا عن ان أكثر الموانع التي منعت تسويتها في الماضي ما تزال نافذة قائمة، فانها زادت قوة بقدر واضح وذلك لفشل مسيرة اوسلو والمواجهة العنيفة في السنين 2000 ـ 2004، وقد قوي في الطرفين القوى التي ترفض تسوية الصراع أو التي تشكك في احتمالاته وتفضل الاستمرار في ادارته سواء طوعا أو باعتبار ذلك لا مفر منه.
ان الموانع التي تمنع تسوية الصراع الاسرائيلي الفلسطيني أو تجعل احرازها صعبا هي من أنواع مختلفة: واقعية وتخص الهوية، وبنيوية ونفسية. والموانع الواقعية هي المصالح المتضاربة لطرفي الصراع ولا سيما في القضايا الجوهرية: القدس والحدود والمستوطنات واللاجئين والأمن. والطرفان يريان القضايا الجوهرية ذخائر واقعية يصعب التنازل عنها أو المهادنة عليها. بل ان موضوعي القدس واللاجئين يُعرفهما الطرفان بأنهما قيمتان أساسيتان خاصتان، وبأنهما قيمتان محميتان مقدستان، محميتان من التفاوض والمساومة والمصالحة والتنازلات. وتستمد القيم المحمية قوتها من الرواية التاريخية وهي مصدر موانع الهوية.
وتتناول موانع الهوية الفروق والتناقضات بين هويتي طرفي الصراع وفي ضمن ذلك الروايات التاريخية، والأساطير والروح العامة في شأن جذور الصراع وتطوره وادارته وتسويته، وتصورات العدل وعدم العدل وضحايا الطرفين. وبرغم ان هذه الفروق والتناقضات ليست مصدر الصراع فانها تزيده قوة لأنها تزيد عليه الجوانب الدينية والروحانية والحضارية والثقافية والعقائدية. ان موانع الهوية تمنح الصراع أبعادا رمزية ترسخ مواقف طرفي الصراع وتساعد على إبقائها وعدم تغييرها وتُصعب جدا استعداد الطرفين للقيام بالتنازلات المطلوبة لتسوية الصراع.
وتتعلق الموانع البنيوية بالبنى السياسية والاجتماعية للطرفين اللذين يمتازان بشقاق عميق وبخاصة فيما يتعلق بالاستعداد للتوصل الى تسوية سلمية ودفع الثمن المطلوب لذلك. في حين ان الجانب الفلسطيني موجود في واقع تاريخي متميز وجديد، فان وجود كيانين فلسطينيين مستقلين (في الضفة وغزة)، مختلفين في شأن الاستعداد لتسوية الصراع، فان الجانب الاسرائيلي منقسم هو ايضا وبخاصة فيما يتعلق بثمن السلام. ويمتاز المجتمعان ايضا بعدم وجود قيادة تؤمن بأهمية قيمة السلام باعتبارها قيمة أولية، أو معنية وقادرة على تحريك مسيرة سلام حقيقية قُدما. والمجتمعان تعوزهما شرعية عامة واسعة من اجل التنازلات المطلوبة لانشاء سلام ويتميزان ايضا بوجود جهات سياسية واجتماعية تعارض سياسيا أو عقائديا انشاء السلام أو ثمنه (النافرون من السلام أو المشوشون عليه).
وتشتمل الموانع النفسية على ثلاثة أنواع: معرفي وشعوري وباعثي. وهذه الموانع تمنع أو تُصعب تغيير اعتقادات ومواقف في الصراع. وهي تؤثر ايضا في تهيئة المعلومات وتفسيرها بحسب اعتقادات طرفي الصراع، وفي ضمن ذلك تجاهل فرص تاريخية لتسوية الصراع.
وهي تهب ثقة زائدة بتوجيه مُراد للتطورات في الصراع وفي ضمن ذلك تقدير زائد لمبلغ النجاح في تحقيق أهداف في المسيرة، ويشمل ذلك اعتقاد ان الزمن يلعب في مصلحته. وتميل الموانع النفسية الى إحداث تقدير ناقص لتنازلات الطرف الثاني، وتُعظم المخاوف والخشية من الطرف الثاني وتزيد الكراهية والعداوة له، وتُعظم عدم الثقة به. وتسهم ايضا في حصر الصراع في الروايات القومية وتصورات العدل وعدم العدل، وتساعد في تعريف القضايا الجوهرية للصراع بأنها قيم محمية. والموانع النفسية مثل موانع الهوية ليست مصدر الصراع لكنها تميل الى تعظيمه وتصعيب تسويته جدا.
ان فشل مسيرة اوسلو والمواجهة العنيفة التي بدأت في ايلول 2000 عززا كثيرا الموانع المذكورة آنفا. وحصرا وأطرا من جديد الموانع الواقعية باعتبارها قيما محمية لا تمكن المصالحة عليها. وزادا في عمق موانع الهوية وأحدثا روايات تاريخية جديدة تتعلق بفشل مسيرة اوسلو، تشير الى استعداد كل طرف لتسوية الصراع واتهام الطرف الآخر بافشال المسيرة. وزادا في قوة الموانع البنيوية والتي عبر عنها ازدياد القوى التي تعارض تسوية الصراع أو ثمن التسوية، قوة. فعلى سبيل المثال كان انتصار حماس في انتخابات 2006 وسيطرتها على غزة، وتولي اليمين السلطة في اسرائيل في انتخابات 2009. وزادا ايضا في قوة الموانع النفسية في المجتمعين والتي التعبير الرئيس عنها هو: اليأس من مسيرة السلام ومن احتمال السلام، والاستخفاف بقيمة السلام، وتقدير انه يمكن بالعنف تحقيق الأهداف القومية (الفلسطينيون) وتفضيل ادارة الصراع على تسوية الصراع (اسرائيل)، وازدياد عدم الثقة بالطرف الآخر، وعدم الاعتراف بالطرف الآخر أنه شريك في السلام أو باستعداده أو قدرته على تسوية الصراع والقيام بالتنازلات المطلوبة لذلك.
ان الاستنتاج المركزي من نقاش هذه الموانع هو ان الموانع الواقعية وبخاصة القضايا الجوهرية الرئيسة: الحوض التاريخي في القدس واللاجئون هي العوامل المركزية التي تمنع من تسوية الصراع. ان تأطير هاتين القضيتين الجوهريتين باعتبارهما قيمتين محميتين يزيد بقدر كبير من صعوبة هذه الموانع ويمنع في واقع الامر امكانات التفاوض والمصالحة والتنازلات في هذه الموضوعات. وازاء قوة هذه الموانع ومركزيتها فان احتمالات تسوية الصراع في هذا الوقت واهنة جدا. وبغير مواجهة لهذا السور العالي من الموانع فان كل جهد لتسوية الصراع في هذه المرحلة لا يُحكم عليه بالفشل فحسب بل قد يزيد اليأس من احتمال احراز سلام بل قد يفضي الى تجدد العنف بين الطرفين. وبغير نضج لظروف تُمكّن من مواجهة ناجعة لهذه الموانع نشك في امكانية تسوية الصراع. يجب على الطرفين وعلى الوسطاء المحتملين ان يأخذوا في الحسبان هذه الموانع وان يجابهوها بطريقة مختلفة وجديدة.

مجابهة الموانع

يبدو انه في الوضع السائد اليوم فانه أسهل ان نصف ونُبين موانع السلام من ان نجيب عن سؤال كيف نتغلب عليها. ان نقطة انطلاق هذه الوثيقة هي انه برغم مركزية الموانع التي تقف في طريق السلام، فانه ينبغي الفحص عن طرق مجابهتها للتمكين من تسوية الصراع. ونقطة انطلاق هذه الوثيقة هي ان الوضع القائم برغم أنه يُرى بادي الرأي مستقرا فانه ليس بالضرورة كذلك وفيه طاقة انفجار عالية قد تفضي الى موجة عنف جديدة. وبغير مبادرة سياسية فعالة لتسوية الصراع قد ينشأ طريق مسدود قد يشجع البحث عن سبل عنف لتغييره وللاضرار بأهداف الطرفين المشاركين في الصراع وحاجاتهما الأساسية، وأن الزمن ليس بالضرورة في مصلحة هذا الطرف أو ذاك.
ان سبل مجابهة موانع تسوية الصراع هي: زعامة باحثة عن السلام، وشرعية واسعة للسلام، وتطوير اعتقادات حافزة، وتعريف تسوية الصراع بأنها مصلحة قومية عليا، والحاجة الى مصالحة قيمية مؤلمة، والحاجة الى التحرر من قيود الماضي، وصيغة مصالحة بين العدل والسلام، وحصر العناية في نتائج حرب 1967، وتوسيع نشاط اللقاءات والحوارات بين منظمات المجتمع المدني في الطرفين، والحاجة الى وسيط فعال، وشرعية عربية لسياسة السلام.
1- زعامة باحثة عن السلام ـ ان زعامة ترى السلام قيمة وهدفا أول في السياسة الخارجية هي شرط مركزي وحيوي لتقديم مسيرة واتفاق سلام الى الأمام. والزعامة الباحثة عن السلام التي ترى دورها التاريخي هو انشاء سلام، ضرورية ويُشك في امكانية إحلال سلام من غيرها. يجب على هذه الزعامة ان تطور تصور سلام منظما يعرض رؤيا السلام وأهدافه والاستراتيجية المطلوبة لتحقيقها، ويجب عليها ايضا أن تهييء الشرعية المطلوبة لتأييد سياسة السلام. يجب على هذه الزعامة ان تعرض على نحو واقعي وعقلاني احتمالات وأخطار سياسة السلام وسبل مجابهتها.
2- شرعية واسعة لسياسة السلام ـ ان سياسة سلام في مجتمع منقسم مختلف في جوهر انشاء السلام أو في شأن بقاء السلام والثمن المطلوب ايضا تقتضي دعما واسعا من قبل النخب الحاكمة والنخب المنافسة، ومجموعات المصالح والجمهور بعامة. وكلما كان تأييد سياسة السلام أكبر شعر صاغة السياسة بمشاركة جمهور أوسع في حقيقة تصور السلام وصار أسهل عليهم ان يواجهوا احتمالات السلام وأخطاره. فواجب على زعامة تبحث عن السلام ان تسعى دائما لتوسيع قاعدة شرعية سياسة السلام. فبغير شرعية واسعة لسياسة السلام يُشك في امكانية تقديم هذه السياسة الى الأمام.
3 – تطوير اعتقادات حافزة ـ ان طريقة مواجهة مركزية تقترحها هذه الوثيقة هي عدم الإخبات وعدم اليأس التام من احتمال احراز تسوية. تنبغي محاولة اثارة أفكار خلاقة جديدة على الدوام لا تساوق الاعتقادات والآراء السائدة التي تقول ان الصراع حتمي وانه لا احتمال لتسويته. هذه الافكار الجديدة التي يمكن ان نسميها ايضا ‘اعتقادات حافزة’، يجب ان تناقض الاعتقادات الراسخة. وبرغم ان الامر يبدو ساذجا وعديم الاحتمال الواقعي في ظاهر الامر، فانه ينبغي جعل انهاء الصراع بالطرق السلمية مصلحة قومية وقيمة مركزية في مجتمع جرب صراعا طويلا وعنيدا: ‘ان الايمان الحافز الذي قد يبعث الباعث على المصالحة، والانفتاح والمرونة، يقوم على الاعتراف بعدم التلاؤم بين المستقبل المرغوب فيه وبين المستقبل الذي يتبدى و/ أو الوضع كما يُرى’. وهذا التوجه عقلاني في أساسه؛ ويوجب على طرفي الصراع ان يحللا بطريقة واقعية تكاليف استمرار الوضع وتدهوره وأن يفحصا بنظرة واعية عن أخطار عدم وجود تسوية. لأن تكاليف استمرار الصراع قد تكون أبهظ من التكاليف التي تنبع من ثمن المصالحة المطلوب للسلام، ووعي ذلك هو الذي يفترض ان يبعث مسيرة السلام ويحفزها. وليس هذا فقط: فاستمرار الوضع الراهن وتدهوره قد يضران اضرارا كبيرا بما يُعرفه الطرفان بأنه قيم محمية ويُعمقان الهوة الفاغرة بينهما. وحتى لو كان بدء هذه المسيرة صعبا على نحو خاص ويحظى بتأييد قلة صغيرة فقط فهناك حاجة الى المثابرة والتصميم والمشاركة الفاعلة في منح الكثيرين الاعتقاد الحافز.
4- تعريف تسوية الصراع بأنها مصلحة قومية عليا يجب ان تكون تسوية الصراع الاسرائيلي الفلسطيني مُعرفة عند الطرفين بأنها مصلحة قومية من الدرجة الاولى، بمثابة ‘إعمل من اجلك’ إن لم يكن من أجلهم. ان تسوية الصراع الاسرائيلي الفلسطيني وانشاء دولة فلسطينية الى جانب اسرائيل مصلحة واضحة لكل يهودي يؤيد استمرار وجود اسرائيل باعتبارها دولة الشعب اليهودي. لأنه بلا حل دولتين للشعبين، قد تجد اسرائيل نفسها دولة واحدة للشعبين، وتخسر تميزها بصفتها دولة الشعب اليهودي وتصبح دولة فصل عنصري وهذا شيء يناقض صبغتها الديمقراطية. ان الخطر الذي يترصد هوية اسرائيل اليهودية والاخلاقية بعدم تسوية والخوف من نزع الشرعية عن اسرائيل في العالم، يجب ان يحث الطموح الى السلام ويقوي الباعث على وجود تسوية مع الفلسطينيين. يبدو ان الخوف في هذه الحال من عدم تسوية يمكن ان يزيد الخوف من التسوية نفسها. ان تسوية الصراع الاسرائيلي الفلسطيني مصلحة واضحة لكل فلسطيني يريد ان يضع حدا للاحتلال الاسرائيلي والمعاناة الفلسطينية المستمرة وان يحقق الطموح الفلسطيني الى انشاء دولة مستقلة ـ فبغير تسوية الصراع الاسرائيلي الفلسطيني، يُشك في ان توافق اسرائيل على انشاء دولة فلسطينية. وحتى لو أعلنت الجمعية العامة للامم المتحدة أو مجلس الامن انشاء دولة فلسطينية، فانه يُشك في امكان تحقيق هذا بغير تسوية الصراع.
5ـ الحاجة الى مصالحة قيمية مؤلمة ـ يجب على الطرفين ان يعترفا بأن تسوية الصراع تقتضي مصالحة قيمية صعبة مؤلمة. ان تسوية الصراع تقتضي مواجهة الطرفين لقيمهما المحمية، بتبني ثنائي لاستراتيجيات تنفيذ صفقات ‘مأساوية’ تقتضي تنازلا في هذا المجال. وبرغم ان الطرفين غير ناضجين في هذه المرحلة للتنازل عن قيم محمية، من المهم ان يكونا عالمين بامكان صفقة مأساوية تشتمل على تنازل عن قيمة محمية لانقاذ قيمة محمية اخرى، أو بعبارة اخرى: تأطير المصالحة بصفتها معضلة قيمية. يمكن مثلا تأطير المصالحة على المناطق باعتبارها وسيلة للحفاظ على صبغة دولة اسرائيل اليهودية، أو تأطير المصالحة على تحقيق حق العودة باعتباره وسيلة لانشاء دولة فلسطينية. ان تأطير المصالحة باعتبارها معضلة قيمية يحظى بتأييد أخذ يتسع في اسرائيل ازاء الحاجة الى الحفاظ على صبغتها بصفتها دولة يهودية ديمقراطية. لكن هذا التأطير ما يزال لم يحظ بتأييد واسع في الطرف الفلسطيني. ومواجهة محتملة اخرى هي كسر حظر القضية المحمية. بعبارة اخرى: تأطير هذه القضايا باعتبارها مصالح لا باعتبارها قيما محمية. ان هذا التأطير يُمكّن من ان يُستبدل حوار عقلاني يُسهل على الطرفين التفاوض بل المصالحة، بالحوار الاسطوري. وهذا الصنيع يُمكّن من تعريف القضايا المختلف فيها بمفاهيم المصالح التي تخضع للتفاوض والمساومة.
6 ـ الحاجة الى التحرر من قيود الماضي ـ ان الفرق بين روايتي الطرفين واسع جدا في هذه المرحلة ولا يمكن التقريب بينهما. وفي حين ان التقريب في مستوى ما بعد الرواية ضعيف جدا، ينبغي الفحص عن امكان تطوير اطار فكري مشترك لبحث الروايات القومية المختلفة المتعلقة بتحقيق المطامح القومية في أطر سياسة مستقلة، مع الاستعداد لمعرفة وتعلم التناقضات بينها وإن لم يمكن في اثناء ذلك التقريب بينها. يمكن فعل هذا الآن بمبادرة من قادة الطرفين وبمبادرة من المجتمع المدني وبمبادرة خارجية من طرف ثالث. واذا لم يكن الطرفان ناضجين لمبادرة كهذه فينبغي وزن امكان ان يعترف الطرفان بأنه يوجد لهما روايات مختلفة لا يمكن التقريب بينها الآن وأن يوافقا على تأجيل التطرق اليها الى مرحلة المصالحة، وذلك كي لا تصبح الفروق الأساسية التي تعرض في روايات الطرفين موانع لتسوية الصراع. يدل بحث الموانع لتسوية الصراع على ان الطرفين أسيران بقدر كبير في قيود الروايات التاريخية وأنهما أصبحا ضحية الماضي الذي يمنعهما من المصالحة. وبرغم ان الروايات التاريخية جزء من الهوية القومية لكل طرف وأن الحفاظ عليها مهم من جهة التراث القومي، فانه لا يجوز ان تكبل الطرفين الى الماضي وتمنعهما من مستقبل أفضل. هذا الى أن التأليف بين الروايات التاريخية والاعتقادات الدينية للطرفين قد جعل المصالحة أمرا محظورا ومخالفة دينية عند الطرفين. وهنا من المهم تأكيد ان التنازلات من اجل السلام ليست بالضرورة مسا دينيا اخلاقيا باعتقادات دينية وليست خيانة للروايات التاريخية والقيم المحمية. بالعكس: ان عدم الاستعداد للمصالحة من اجل السلام هو غير الاخلاقي لان ضحايا المستقبل لن يغفروا الثمن الدموي الذي ستطلبه حرب اخرى.
7 ـ صيغة مصالحة بين العدل والسلام ان الطرفين مختلفان جدا، في شأن الصلة بين العدل والسلام. فاسرائيل غير مستعدة لقبول المطالب الفلسطينية ان تعترف اسرائيل بمسؤوليتها عن احداث مشكلة اللاجئين في حرب 1947 ـ 1949 (عدل انتقالي) وبحق عودة اللاجئين الى داخل اسرائيل (عدل تعويضي). تبين ان الربط الالزامي بين العدل والسلام بحسب المطالب الفلسطينية مانع للسلام في مسيرة السلام وان استمرار الاصرار عليه قد يفسد احتمال احراز اتفاق، وبرغم ان من المرغوب فيه ان يطور الطرفان تصورا مشتركا عن الصلة بين السلام والعدل فانه يُشك في أنهما ناضجان لذلك. لهذا ينبغي السعي الى مصالحة معقولة في مسألة الصلة بين العدل والسلام. والمصالحة الممكنة هي الفصل بين مطالب الفلسطينيين لعدل انتقالي وبين مطالبهم لعدل تعويضي. ان طلبا فلسطينيا معتدلا لعدل انتقالي، مثل استعداد اسرائيل للاعتراف بمعاناة الشعب الفلسطيني (لكن لا أن تتحمل المسؤولية) ـ كما تم الاقتراح في مخطط الرئيس كلينتون ـ قد يكون حل مصالحة لطلب العدل الانتقالي. ومن جهة اخرى يستطيع الطرفان تبني صيغة تعترف بمسؤوليتهما المشتركة عن الظلم الذي سببه كل طرف اثناء الصراع للطرف الاخر، وان يعتذر بعضهما لبعض ويعفو بعضهما عن بعض. وفي شأن مطالب العدل التعويضي، ينبغي ان يُرى حل الدولتين وانشاء دولة فلسطينية الى جانب اسرائيل مصالحة اسرائيلية وخطوة لتحقيق طلب العدل التعويضي. وقد تكون المقترحات الاسرائيلية والامريكية، ان يتجه اللاجئون، في ضمن ما يتجهون اليه، الى المناطق التي تتبادلها اسرائيل مع الفلسطينيين ـ وان يُعرف هذا بأنه تحقيق لحق العودة ـ يمكن ان تكون مصالحة. ان طلب الفلسطينيين تحقيق حق العودة داخل اسرائيل خاصة، يناقض فكرة انشاء دولة فلسطينية لأنه لا يمكن انشاء دولة فلسطينية واعادة اللاجئين في الوقت نفسه الى اسرائيل وأن تُعرض اسرائيل لذلك باعتبارها دولة الشعب اليهودي للخطر، لأن انشاء دولة فلسطينية حل عقلاني واخلاقي ومعقول لذلك. والاصرار الفلسطيني على حق العودة الى اسرائيل خاصة فضلا عن أنه يمنع احراز اتفاق سلام وانشاء دولة فلسطينية، يسبب معاناة اخرى للاجئين ولسكان الضفة الغربية وغزة ويزيد الشعور بالظلم وعدم العدل. حينما لا يكون الطرفان قادرين على التوصل الى اتفاق في شأن العدل لكنهما معنيان بالتوصل الى اتفاق سلام على أساس حل دولتين للشعبين، فيحسن ان يؤجلا علاج قضية العدل لمرحلة المصالحة. وبهذه الطريقة يتفق الطرفان في اطار اتفاق سلام على ان موضوع العدل مهم في نظريهما جدا وانه لا يمكن بناء السلام واقراره بينهما حتى إتمام علاج مسألة العدل في علاقاتهما. ان نقل النقاش الى مرحلة المصالحة سيُسهل على الطرفين التغلب على مانع العدل ويُمكّنهما من الفحص عن هذا الموضوع بعد تسوية الصراع بينهما وبناء الثقة بينهما. آنذاك سيكون الطرفان أكثر نضجا لتناول هذه القضية التي هي قيمية جدا وتصعب المصالحة عليها.
8 ـ حصر الاهتمام في نتائج حرب 1967 ـ يجب ان يكون الافتراض الانطلاقي لتسوية السلام هو حل نتائج حرب 1967 لا نتائج حرب 1947 ـ 1949. فيجب اذا ان يكون المبدأ الموجه ‘الاراضي مقابل السلام’ لا فتح ‘ملف’ 1947 ـ 1949. وتُحدد نقطة انطلاق التفاوض باتفاق بين الطرفين على هدف التفاوض النهائي وهو دولتان للشعبين في حدود 1967 واحدة الى جانب الاخرى بسلام وأمن. وتكون كل القضايا موضوعة على طاولة التفاوض، لكن نهايته تقوم على مبدأ ‘لا يُتفق على أي شيء حتى يُتفق على كل شيء’ وينبغي أن يوزن امكان منح أسبقية للنقاش والاتفاق على القضايا ‘الجوهرية’، تحت مبدأ ادارة التفاوض ‘من الثقيل الى الخفيف’. ويُحدد الاطار الزمني لاجراء التفاوض حتى نهايته ويتفق عليه الطرفان سلفا.
9- توسيع نشاط اللقاءات والحوارات بين منظمات المجتمع المدني في الطرفين ـ ان هذا النشاط الذي استمر سنين كثيرة هو متميز وحيوي. فبرغم الصعاب وبرغم الشعور الذي يثور احيانا بأنها غير مجدية وأنها لا تستطيع ان تغير الوضع، فان هذه اللقاءات والحوارات مهمة برغم كل شيء لاستمرار التحادث بين الطرفين ولتهيئة الشرعية العامة لتسوية الصراع. ان تجديد التفاوض يقتضي من الطرفين ان يعترفا اعترافا متبادلا بالفروق الثقافية الدينية بينهما وأن يحاولا ان يلائما أنفسهما لهذه الفروق لا عن استكبار أو إبطال بل عن شعور بالمساواة والاحترام المتبادل. وهكذا ينشأ جو مريح، ويمكن وجود تفسير أدق للتصريحات والسلوك، ودقة في ارسال الرسائل الى الغير.
10- الحاجة الى وسيط فعال ـ يمكن ان نزعم على نحو قاطع إزاء الفروق بين مواقف الطرفين وعدم الثقة بينهما أنه لا تمكن تسوية الصراع الاسرائيلي الفلسطيني بلا تدخل طرف ثالث. فالطرفان يحتاجان الى وسيط امريكي حازم وفعال وناجع على نحو خاص، يساعدهما على التغلب على الموانع والوصول الى النضج المطلوب لدخول التفاوض واجرائه واحرازه وتحقيقه. ويجب على الوسيط الامريكي ان يبذل قصارى جهده لا باقتراحات التقريب بين مواقف الطرفين فحسب بل بأن يساعدهما على التحرر قدر المستطاع من قيود شعورية مصحوبة بروايات قومية وقيم محمية ويساعدهما على صوغ ‘صفقات مأساوية’. فالحديث عن مستوى آخر من الوساطة لم يجربه طرفا الصراع الاسرائيلي الفلسطيني حتى الآن. ويقتضي مستوى وساطة كهذه خبرة مؤرخ وحساسية عالِم نفسي.
ويقتضي تشخيصا حادا ودقيقا لمشكلات الصراع المركزية والصعاب التي تواجه الطرفين في الداخل، لكنه يقتضي ايضا مساعدة على تخفيف التهديدات الامنية وبذل ضمانات لمضاءلتها وتعويض عن المس الحرج بقيم محمية، مع تأكيد الأهمية العليا لتسوية الصراع. ويجب على الوسيط الامريكي ان يكون نزيها وان يستعمل الاغراءات أكثر من التهديدات وأن يساعد زعماء الطرفين على توسيع دوائر شرعيتهم لتأييد تكاليف السلام. وعلى الوسيط الامريكي ان يساعد الطرفين على أن يؤطرا السلام باعتباره مكسبا مشتركا لا خسارة وأن يُبين لهما جيدا أن حل الدولتين هو المخرج الوحيد من الصراع ليس غير. هذا الى انه توجد حاجة الى تدخل دولي لتحقيق الاتفاق والحفاظ عليه. ويجب ان يشتمل هذا التدخل على اقامة قوات لحفظ السلام ومساعدة اقتصادية كثيفة للطرفين ولا سيما لحل مشكلة اللاجئين من الطرفين.
11- شرعية عربية لسياسة سلام ـ بازاء الشقاق في المعسكر الفلسطيني ودروس اخفاق مؤتمر كامب ديفيد في تموز 2000، ينبغي ربط دول الجامعة العربية أو على الأقل مصر والاردن والسعودية بمسيرة التفاوض وتأييد اتفاق السلام، وذلك لضمان شرعية للاتفاق تُسهل على السلطة الفلسطينية تسويغه ولا سيما بازاء رفض حماس ومنظمات فلسطينية اخرى إياه، وكذلك ايضا بعض الدول العربية. ان هذا التأييد سيساعد اسرائيل ايضا ويُمكّن من عمليات تطبيع مع دول عربية اخرى.

الخلاصة
عرضت هذه الوثيقة باختصار موانع السلام في الصراع الاسرائيلي الفلسطيني كما رآها باحثو الكتاب: ‘موانع السلام في الصراع الاسرائيلي الفلسطيني’. مع ذلك نعتقد ان من الواجب علينا باعتبارنا باحثين ألا نقف جانبا وأن نقترح ايضا طرق مواجهة لهذه الموانع لأنه ينبغي بذل كل جهد لتسوية الصراع لأن استمراره يزيده شدة ويزيد في صعوبة تسويته ويُعرض مستقبل الشعبين للخطر بقدر كبير.
ونحن نكشف للساسة وللجمهور العريض عن الموانع التي تمنع أو تُصعب تسوية الصراع وعن طرق مواجهة هذه الموانع. والباحثون الذين شاركوا في كتابة هذا الكتاب عالمون جيدا بالصعاب وبالتكاليف وبالعذاب الذي يشتمل عليه صنع السلام، ويشهد على ذلك تحليل الموانع في طريق السلام، الذي تم هنا. ومع ذلك فاننا نقبل كلام رئيسي الحكومة مناحيم بيغن واسحق رابين اللذين قالا ان عذابات الحرب أصعب من عذابات السلام وان طريق السلام أفضل من طريق الحرب.

يعقوب بار سيمان طوف

معاريف بريس

www.maarifpress.com

عن

معهد القدس للبحوث الاسرائيلية ـ 12/4/2012

تعليقات الزوار
Loading...
footer ads

footer ads