صحيفة إلكترونية استقصائية ساخرة
after header mobile

after header mobile

ثورة اسلامية …اسلامية تحمل شعار “شعب ونار وأعمدة دخان”

في الايام العادية يكون رصيفا شارع محمد محمود مليئين بضجيج طلبة جامعة، أكثرهم من أبناء الاغنياء، يجلسون في المطاعم وفي المقاهي في طريقهم الى الجامعة الامريكية في القاهرة أو منها. والبيوت الحسنة تشهد على الماضي البرجوازي الفخم لهذا الشارع.
في غضون بضعة ايام غير شارع محمد محمود وجهه من النقيض الى النقيض. فقد تحول من شارع تجاري ضاج الى ميدان قتال بين متظاهرين غاضبين وقوات شرطة مسلحة جيدا، تحمي وزارة الداخلية المصرية من غضب الجمهور.
والمتاجر مغلقة منذ اسبوع. ويبدو الشارع الفخم مثل ارض مشاع، مغطاة ببقايا اطارات محروقة، وحجارة من جميع الاحجام، وشظايا زجاجات حارقة وخرطوش رصاص وقنابل دخان على اختلاف أنواعها.
يجدد المتظاهرون الذين يأتون من ميدان التحرير المجاور مرة كل بضع ساعات، الهجوم على وزارة الداخلية البغيضة إليهم ـ وهي رمز لـ’دولة الشرطة’ للنظام السابق ـ الحالي. ويردهم رجال الشرطة على أعقابهم باطلاق مباشر أو باطلاق في الهواء لرصاص مطاطي، ونار حية وقنابل دخان ومسيلة للدموع على اختلاف أنواعها. وقد جعل مكان شارع محمد محمود، بين ميدان التحرير ووزارة الداخلية، ميدانا نازفا لـ’الثورة المصرية الثانية’. ان عدد المتظاهرين الذين قتلوا هنا باطلاق قوات الامن النار يُقدر بعشرات.. ويُقدر الجرحى بآلاف.
يسمى شارع محمد محمود باسم واحد من وزراء الداخلية الاسوأ سمعة في مصر الحديثة. ورغم جميع الثورات وتبدل السلطة منذ ذلك الحين بقي تخليد السياسي البغيض على حاله. وفي هذا الاسبوع صُفي حساب قديم للمصريين مع نظم الحكم السابقة على اختلاف أحقابها.
مرت عشرة اشهر منذ كانت الثورة المصرية الاولى في نهاية كانون الثاني/يناير من هذا العام، التي أفضت الى اسقاط الرئيس مبارك حتى ‘الثورة المصرية الثانية’ التي بدأت هذا الاسبوع؛ عشرة اشهر مرت فيها على مصر وعلى الثورة تحولات كثيرة. وحينما استقر رأي ‘شباب الثورة’ في نهاية الاسبوع الاخير على العودة الى ميدان التحرير لوأد محاولة الجيش ان يحتفظ بسلطات حكم واسعة، بموازاة انشاء سلطة مدنية ديمقراطية محدودة جدا، لم يتخيلوا ان يتدهور هذا العمل الى سفك دماء.
الغاز المصري
عادل هو محام في الثلاثينيات من عمره، وهو جزء من شباب الثورة، و’جيل الفيسبوك’، وأبناء الطبقة الوسطى المتمردين. التقيت معه حينما غادر مكان عيادة الشارع المحاطة بحبل دقيق، عند مدخل فرع كنتاكي فريد تشيكن في ميدان التحرير.
يمسح عادل عينيه ووجهه من السائل الطبي الذي رشه عليه الاطباء المتطوعون في العيادة، للاقلال من الحكة القوية التي تسببها القنابل المسيلة للدموع، وهو في الحقيقة لم يشارك في الهجوم الاخير على وزارة الداخلية، لكن كل نسيم يأتي الى الميدان من شارع محمد محمود يحمل معه دخان الغاز السام.
عادل منذ عدة ايام يأتي الى الميدان في ساعات بعد الظهر مباشرة بعد انهاء عمله في المحكمة، ويبقى في الميدان حتى ساعات الصباح المبكرة. بعد ذلك يعود الى البيت ليستحم ويبدل ملابسه ويمضي الى العمل. وقد بقي مخلصا لطريق ‘شباب الثورة’ الحذر، الذين يريدون التغيير بضغط جماهيري كثيف بطرق سلمية لا بالعنف. ويقول: ‘الناس الطيبون موجودون هنا في الميدان. والأشرار موجودون في شارع محمد محمود. ولست أعلم البتة لماذا يهاجمون وزارة الداخلية. يجب ألا يفعلوا هذا. نحن نريد ان نأتي مصر بالديمقراطية والاستقرار والنماء. وليست هذه طريقة احراز هذه الأهداف. أخذ الوضع يزداد سوءا. فمع هذا العنف لن تتم انتخابات مجلس الشعب. والاخوان المسلمون كانوا أصلا سيفوزون فيها بأكثرية كاسحة’.
‘الأشرار’، بحسب تعريف عادل هم في أكثرهم من اولاد وفتيان الشوارع الحادي المزاج من بسطاء الشعب الذين يمنحهم الهجوم على وزارة الداخلية لا امكان التحرر من احباط عميق فقط بل فرصة لمرة واحدة ليحظوا بالمجد. وقد أصبحت أسماء وصور عدد من ضحايا مواجهات الايام الاخيرة مُخلدة في لافتات ضخمة في شوارع الميدان. لكن يوجد في النواة العنيفة للمتظاهرين ايضا غير قليل من الناس العاديين الذين يئسوا من التغيير الموعود وفقدوا كل ثقة بسلطات الدولة.
اعتُبر الجيش في ‘ثورة يناير’ منقذ مصر. واحتل مكان قوات الشرطة التي اختفت تحت الارض وأقنع الرئيس السابق مبارك بالاستقالة كما يطلب الشعب. ورأى المتظاهرون الدبابات التي أُرسلت آنذاك الى الشوارع ضمانا للاستمرارية والاستقرار في ايام عاصفة وعدم يقين. وفي ‘ثورة تشرين الثاني/نوفمبر’ يشار الى الجيش وقادته باعتبارهم الهدف المركزي.
‘اسقاط النظام العسكري’، تصرخ لافتة حمراء ضخمة في قلب ميدان التحرير. وتظهر في لافتة بيضاء قريبة صور قادة المجلس العسكري وعليها علامة ‘إكس’ كبيرة، كما في قائمة مطلوبين تم القضاء عليهم. ‘لن ننسى لاعضاء المجلس العسكري ان مبارك وابنه عينوهم؛ وأنهم دافعوا سنين طويلة عن النظام الفاسد؛ وأنهم يفرضون علينا وزراء يوالونهم؛ وأنهم يحاكمون مدنيين في محاكم عسكرية بلا أي ضمانات لكنهم يحاكمون مبارك ومساعديه في محكمة مدنية مع جميع الحقوق؛ وأنهم جعلوا الجيش متجرا خاصا يضمن لهم ايرادات شخصية؛ وأنهم سلموا حدودنا لتجار المخدرات والمهربين واليهود ومسوا بحقوق جنودنا الذين قتلتهم اسرائيل على حدودنا؛ وأنهم ما يزالون يصدرون الغاز الى اسرائيل ويستوردون السلع منها؛ وأنهم ما يزالون يغلقون معبر رفح أمام اخوتنا الفلسطينيين؛ وأنهم يستوردون من امريكا واسرائيل وسائل قمع غير قانونية’ وهكذا تفصل اللافتة مادة بعد مادة ‘الجرائم’ غير المغتفرة للجماعة العسكرية.
عُلق على عامود نور مركزي في الميدان علم لمصر كبير كُتب فيه: ‘نحب من يحبنا ونكره من يكرهنا’. وتهتز الى جانب العلم دمية على صورة انسان ملفوفة بقماش اسود، وهي رسالة واضحة الى قادة الجماعة العسكرية عن المصير الذي يرجوه لهم فريق من المتظاهرين. ‘انهم يقتلوننا كما يقتل الاسد السوريين’، يعلن رفيق وهو واحد من مهاجمي وزارة الداخلية، ‘سنفعل بهم ما فعل الليبيون بالقذافي’.
‘أحسن ما حدث في ليبيا؟’ يسألني بهمس متظاهر آخر ويهز رأسه، ‘هذا عار، لا يجب التصرف على هذا النحو’.

تحرير انتخابات
أصبحت ‘الثورة المصرية الثانية’ ممزقة بين مؤيدي النضال المدني وجهات عنيفة لا يعلم أحد ما قوتها وهل تنفذ أوامر جهة ما. ان الاشاعات تنسب الى المتطرفين ولاء مختلفا: فالمقربون من النظام وفريق من المعتدلين يرتابون في أنهم عملاء الحركتين الاسلاميتين المتطرفتين ‘الجماعات’ و’السلفية’، اللتين تطمحان الى اسقاط سلطات الحكم القائمة بالقوة واستبدال حكم ديني بها يستمد كل سلطاته من ‘الشورى’ الاسلامية السنية.
ان ‘المظاهرة المليونية لانقاذ الأمة’، التي تمت يوم الثلاثاء في ميدان التحرير وسائر مدن مصر الكبيرة لم تقترب من حجم المظاهرات التي صاحبت ‘ثورة يناير’. وقد دعا الاخوان المسلمون الذين يراهم كثيرون من ‘شباب الثورة’ حلفاء للجماعة العسكرية، الى مقاطعة المظاهرة خشية ان تعرض هذه المظاهرة للخطر إتمام الانتخابات المخطط لها. ورغم ان عددا من كبار مسؤولي ‘الاخوان’ تحدوا موقف حركتهم، ودعوا الى الانضمام الى المظاهرة وطُردوا من ميدان التحرير على أيدي نشطاء لجان ‘شباب الثورة. وقد فسر ‘شباب الثورة’ وقادة المعسكر العلماني هذا التقدير على أنه ‘هزيمة سياسية للاسلاميين’. ورأى آخرون القلة النسبية للمتظاهرين علامة على سيطرة ‘الاخوان’ على الشارع المصري. واذا أخذنا في الحسبان ان الحركات الاسلامية التي هي أشد تطرفا قد استقر رأيها على الانضمام للمظاهرة وتم الشعور بوجودها جيدا في الميدان، فان ‘المظاهرة المليونية’ التي لم تكن تشهد حقا على القوة السياسية لحركة ‘الاخوان’، رغم ان كثيرين من أنصارها يزعمون ان قوات الامن منعتهم من الوصول من أحياء القاهرة الشعبية الى ميدان التحرير.
ان الخشية ايضا من هرج ومرج من جديد، وفقدان سيطرة مطلق واضرار آخر بوضع الدولة الاقتصادي المضعضع قد تركت مصريين كثيرين في بيوتهم هذا الاسبوع. فقد فضلوا ان يتابعوا من بعيد ما يجري في ‘ميدان الثورة’ خاصة على شاشات التلفاز. وقد انقسمت القاهرة هذا الاسبوع الى عالمين: ففي مركزها وفي نطاق كيلومترات معدودة فقط، ثارت حركة احتجاج مجددة. ووراء الميدان جرت الحياة كعادتها ورتابتها. فقد جرت الحركة في الشوارع وكانت الحوانيت والمطاعم مفتوحة. وتهاوت البورصة المصرية في الحقيقة كثيرا وسببت للمستثمرين فيها خسائر بمليارات الجنيهات المصرية. لكن الاعمال ما تزال مستمرة على نحو ما وفي فرع السياحة ايضا.

شوق الى السادات
يعرف المصريون ايضا كيف يستخلصون أرباحا مالية من ثورتهم. فالاشهر التسعة التي مرت منذ اول موجة للثورة جعلت الاحتجاج الشعبي علامة تجارية ناجحة جدا. في يناير كانت الشوارع المفضية الى ميدان التحرير مغلقة بصفوف دبابات وجدران حديدية متحركة أقامتها ‘لجان الثورة’، بحيث تستطيع ان تراقب من يأتون الى المكان. واحتلت محل الدبابات اليوم صفوف من الدكاكين تبيع المتظاهرين سلعا ثورية متنوعة. ويوجد ايضا بالطبع معدات للحماية من الغاز السام للقنابل المسيلة للدموع وقنابل الدخان.
بين بسطات ‘تذكارات الثورة’ يقوم عند مدخل الميدان ايضا بسطة تعرض للبيع صور قادة جليلين ومكروهين معا. فالى جانب حسن البنا مؤسس الاخوان المسلمين الذي قتل في نهاية اربعينيات القرن الماضي، واسامة بن لادن وعرفات والشيخ احمد ياسين وجمال عبد الناصر، ألاحظ عددا من صور وجه الرئيس المرحوم أنور السادات، سلف مبارك. ‘السادات؟’ سألت متعجبا عماد وراشد وهما طالبان جامعيان في مطلع العشرينيات من أعمارهما جاءا ليتظاهرا على النظام العسكري. ‘نعم’، يجيبانني، ‘كان زعيما كبيرا عمل الكثير من اجل الشعب. تمتع الناس في عهده برفاهة وظروف عيش أفضل كثيرا مما كان لنا في ايام مبارك. فمبارك وناسه عملوا من اجل بيوتهم فقط. ‘لكنكما أحدث سنا من ان تعرفا كيف كان الوضع في ايام السادات’، قالا: ‘حدثنا آباؤنا عن تلك الايام’، يجيب أحد الشابين.
ان بذور التطوير قد بُذرت حقا في ايام السادات لكن ثمارها قُطفت في ايام مبارك. وأُسارع الى التأكيد قائلا: ‘السادات ايضا وقع على سلام مع اسرائيل’. يتجاهل محدثاي هذه الملاحظة ويتابعان الثناء على القدرات القيادية للرئيس القتيل.
‘لكن السادات يُرى في نظرنا بأنه صانع للسلام’.

يحسدون التونسيين
تابع مصريون كثيرون هذا الاسبوع بحسد كبير التطورات السياسية في تونس: وفضلا عن أن هذه الدولة العربية الصغيرة حركت عجلة ‘التمرد العربي’ أتمت قبل اسبوعين انتخابات ديمقراطية مثالية، ورغم الفوز المطلق للاسلاميين، عقد هذا الاسبوع المؤتمر التشريعي في جلسة تاريخية اولى. وقد تم تقسيم الوظائف الأولية في الحكومة الانتقالية التي يفترض ان تنقل تونس الى الأمام في طريق التحول الديمقراطي، مع اتفاق تام بين القوى السياسية الرئيسة. ‘طلبوا مساعدة خارجية كي ينظموا أنفسهم للانتخابات، وحصلوا على مشورة كيف يبنون احزابا ويُعدون الناس للاقتراع واستقبلوا بأذرع مفتوحة مراقبين من الخارج راقبوا سير الانتخابات السليم. ورفض النظام العسكري المصري كل مقترحات المساعدة الخارجية. وفي تونس تمت الانتخابات في يوم واحد. وهي في مصر ستتم حقا لكنها ستستمر شهرين. وليس هذا ترتيبا جيدا للديمقراطية’.
ان استمرار سفك الدماء وخطبة الطنطاوي المخيبة للآمال هذا الاسبوع يزيدان الضغط الشعبي وعدم اليقين فيما سيحدث في مصر في الايام القريبة. وقد تكون الساعات القريبة حاسمة. فقد دعت احزاب المعارضة الى اجراء مظاهرة مليونية اخرى هذا اليوم بعد صلاة الجمعة. وتجد قيادة ‘الاخوان المسلمين’، وهم سادة مصر القادمون، نفسها تحت انتقاد يزداد من داخل صفوفها لتنضم الى المظاهرة. ان مصر هذه المرة تستعد لمظاهرة قوة حقيقية.

‘ مبعوث ‘يديعوت’ الى القاهرة
يديعوت 25/11/2011

تعليقات الزوار
Loading...
footer ads

footer ads