صحيفة إلكترونية استقصائية ساخرة
after header mobile

after header mobile

الاحد يوم سعيد…

 

 

 

 

نظرت إلى زوجها بلا مبالاة و انسلت من الفراش. استيقظت على غير عادتها في السابعة صباحا. تذكرت أن اليوم هو الأحد. و الأحد يوم سعيد.

تركت الماء الدافئ ينهمر على جسدها بغزارة. سعيدة هي .  روحها مضطربة تتعثر لتلامس أعماقها. على غير عادتها أدارت الصنبور بغتة عن آخره  ليهطل ماء قارص على فروة رأسها و ينحدر في أجزاء جسدها. شعرت بالقشعريرة. و أخذت تصرخ  و تضحك و تقفز بجزع و تلطم بيدها الماء كأنها تحاول أن تبعده عنها.  و لكن من يستطيع أن يوقف  الماء عندما يتدفق؟ فلم تجد بدا من الاستسلام إليه.  فتركته يجرفها إلى عالمه البارد القاسي. أغمضت عينيها و  تخيلت  نفسها وسط البحر تحت سماء ممطرة، في زورق صغير تحاول العبور إلى بحيرة مونيكا الساحرة . و شعرت بالحيرة ذاتها التي تطاردها دوما في حياتها.  لا تدري أتستمتع بسحر البحيرة أم تجزع من اضطراب الجو و هيجان البحر؟ هل تستمتع بتدفق الماء البارد على جسدها ؟ هل تستمتع بالنشوة الجارفة التي أيقظت كل جوارحها ؟ أم ترتجف و تتوجع من البرد ؟

هكذا هي، لا يهدأ لها بال. سعيدة تجتاحها غصة لا تدرك كنهها. حزينة تستشعر إشراقة  متوهجة في مكان ما بداخلها. لا تستسلم للحزن و لا تثق في الفرحة. تضبط إيقاع مشاعرها. فلا حزن دائم و لا فرحة دائمة. و حده الضجر يستحوذ  على أيامها و لياليها.

 ارتدت روبا قرمزيا من القطن الدافئ. جلست مسترخية فوق كرسي هزاز في ركن المكتبة. أخذت ترشف كوبا من الشاي الأسود الساخن ببطء. تتأمل العصافير خارج النافذة و هي تغرد و تنقب بقايا من الخبز تضعه دوما على فرشة نافذتها. أغبطت العصافير لأنها تفعل الشيء ذاته كل يوم و مع ذلك تظل تغني بالحماسة ذاتها كأنها تكتشف التغريد لأول مرة.

بحثت بعينيها عن عناوين مغرية لكتب تتصفحها. إنها ضعيفة أمام كتب الطبخ. فإذا كانت توجد كتب قديمة ممنوعة و نادرة تلقن السحر الأسود، فإنها تعتقد أن كتب الطبخ تدخلك إلى عالم السحر الأبيض. فببضع مقادير بسيطة يمكنك أن تحصل على مذاق و نكهات  و أنسجة و ألوان و روائح متنوعة و متناقضة. حامض.  حلو. مر. مالح.  بارد. دافئ. ساخن.صلب. رخو. ناعم. لزج. خشن … ببضع خلطات يمكن لحواسك أن تنتقل بمتعة و دهشة من الشيء و نقيضه و بدون ان تترك لك تلك الأحاسيس مهما كانت شدتها جرحا في أعماقك. فهي تجربة  حياة رائعة بدون مضاعفات جانبية. 

أخذت تتصفح كتاب “ابدئي يومك بفطور عالمي” . أغرتها وصفة البانكيك الأمريكية. قررت أن تهدي لعائلتها الصغيرة فطورا أمريكيا هذا الصباح. لم تكن متأكدة تماما من خيارها. ليست  متأكدة فيما إذا كان الطبخ وسيلة فعالة لتقارب الحضارات و الأمزجة بين البشر. هي و زوجها متناقضين تماما، فإذا كان للرتابة و التحجر عنوان فهي لا تعتقد أنها ستجد لها اسما أنسب من اسم زوجها. طوال النهار وهو يشاهد التلفاز أو يتصفح الجرائد أو نائم. لا يملك أية موهبة. فهو مبدع في شيئين اثنين فقط الجدال و الانتقاد. طوال النهار و هو ينتقد ما تقوم به من أعمال. و هي تنظف يخبرها بأن رائحة سائل التنظيف قوية، إذا كنست يشتكي من الغبار المتطاير. إذا اشترت شيئا جديدا دائما يجد طريقة ليخبرها أنه لا يناسبها و أن البائع استغفلها و بأنه قادر على أن يشتريه بنصف الثمن. عندما تطلب منه أن يشتريه لها ينظر إليها باستغراب و يخبرها ليس لديه وقت لتفاهات التسوق. عندما ينتهي منها، يبدأ في انتقاد الإمبريالية و المؤامرات الصهيونية، و ما يحصل في سوريا، و يستسرد في شرح خطته لحل القضية الفلسطينية، و يحذرها من الثقة العمياء في الدولة الأمريكية، و يصف لها أخر ما قامت به داعش من أعمال وحشية عبر ما ينشر في مقاطع اليوتوب…

عندما تقاطعه و تخبره أن الثلاجة فارغة و الأجدر به أن يذهب إلى التسوق و إلا  فإنهم سوف لن يجدوا ما يأكلونه،  ينظر إليها بازدراء و يخبرها بثقة بان عقلها الصغير لا يمكن أن يفهم في السياسات الكبرى. و بأن الحديث معها مضيعة لوقته الثمين و احتقار لعلمه الواسع. و طبعا، في النهاية هي من تذهب إلى التسوق.

في البداية، كانت تنزعج منه و من خموله. و لكنها مع الوقت، تعلمت بفضل حيويتها، أن تستخدم عجزه و كسله لصالحها. فخلقت من منزلها و حياتها مملكة هي وحدها من تملك مفاتيحها. و متى عارض ما تقوم به و ما تشتريه من أثاث و ما تطبخه من طعام تطلب منه بسذاجة أن يعلمها و يشاركها فيلوذ بالصمت مرغما. لهذا قررت أن تفطر فطورا أمريكيا هذا الصباح. فهي سيدة المنزل و السيد هو من يختار و الآخرون لا يملكون إلا المعارضة أو الاستمتاع بما هو موجود. 

أعدت قطع البانكيك بالعسل و الشوكولاتة. عصرت القهوة و تركت الحليب يغلي. زينت مائدة الفطور بمزهرية من الورود البرية. و أحضرت قطع من التوست  و الخبز المحمص، الجبن، الزيتون، زيت الزيتون، دوائر من الكاشير، بعض قطع من الصوصيص، و مسحوق الكاكاو لأطفالها الصغار. مائدة الفطور كانت جاهزة. و لكن أفراد أسرتها ما زالوا يغطون في النوم.

ذهبت إلى غرفة أطفالها لتوقظهم. أزاحت  الستائر لتحتل أشعة الشمس الغرفة. و تعمدت أن تشغل موسيقى “الكانتري” بصوت مرتفع قليلا. كانت تبدو لها موسيقى تناسب يوم الأحد، فهي موسيقى بإيقاع سعيد تدعوك للرقص و الحركة.

استيقظ طفلاها بسرعة. عندما سمعوا الموسيقى فهموا أنها دعوة للرقص و الشغب. فأخذوا يرقصون قليلا مع بعضهم البعض و يتدافعون بالوسائد فيما بينهم. استيقظ الأب و هو يزمجر و ينتقد الصراخ و الصخب.

نظرت إلى أسرتها بحنان و هي مجتمعة أخيرا على مائدة الفطور. رائحة القهوة الشهية كانت قادرة على إيقاظ الأمزجة الأكثر عصيا. و منظر المائدة المتناسق كان يفتح شهية أكثر الناس كآبة. و لكن زوجها نظر إلى المائدة بعيون القناص، و حدق في قطع البانكيك يسألها عنهم. ما إن أخبرته أنها أكلة أمريكية حتى أخذ ينتقد بلهجة شديدة ما فعلته السياسة الأمريكية في البشرية و يعاتبها على طبخاتها العجيبة، و كيف و بينما هو يحارب أمريكا بكل قوته و ذكائه يكتشف أن زوجته تخونه و تطبع معها. أخذت نفسا عميقا و هي تردد في أعماقها أن ” الأحد يوم سعيد”.  نظرت إلى طفليها بمحبة و هما منهمكين في التهام قطع البانكيك بالشوكولاتاه. نظرت إلى زوجها بهدوء و تظاهرت بالجدية و بخطورة ما ستخبره به و قالت: هلا التهمت بعض قطع البانكيك   لترى بنفسك ما تفعله أمريكا ببطون البشر؟   

 

 

أمل مسعود

معاريف بريس

www.maarifpress.com

تعليقات الزوار
Loading...
footer ads

footer ads