صحيفة إلكترونية استقصائية ساخرة
after header mobile

after header mobile

لعبة تشويه النخبة السياسية

 


تعرض مصطلح «النخبة» لتشويه مقصود في الحياة السياسية التي أعقبت انطلاق «الربيع العربي» لاسيما في مصر على أيدي أتباع «الإخوان» والسلفيين، وكان هدفهما بناء جدار عازل بين «قادة الرأي» والجماهير الغفيرة، حتى يسهل عليهم توجيهها بالطريقة التي تحلو لهم وتحقق مصالحهم. وكان التشويه عميقاً وجارحاً إلى درجة أن كلمة نخبة صارت مصطلحاً سيئ السمعة في أذهان العوام. لكن هذا الأمر انطوى على شيء إيجابي، يتمثل في اعتراف غير مباشر من «النخبة الحاكمة» آنذاك بأن «النخبة المضادة» أو «النخبة الثقافية» لها تأثير كبير على الجمهور، الأمر الذي فرض على من يحكمون استخدام كل أساليب الدعاية السياسية في مواجهة قادة الرأي.

فالنخبة، بشكل عام، هي مجموعة تتفوق على بقية المجتمع، مستندة إلى مركز اجتماعي متقدم، أو ألمعية فكرية، أو قدرة علمية، أو امتلاك ثروة طائلة، أو مرتبة دينية، وقد تمتلك هذه المجموعة بعض تلك الركائز أو كلها في وقت واحد، وقد ينشد أعضاؤها أنشودة واحدة متناغمة دون حاجة إلى قائد أوركسترا، إذ إن إدراكهم للمصالح المشتركة والمصير الواحد يدفعهم جميعاً للعمل سوياً في سبيل الحفاظ على وجودهم ونفوذهم. ومفهوم النخبة يطلق على مجموعة تتولى القيادة في مجال معين من مجالات الحياة، كأن يقال النخبة الثقافية والنخبة العلمية ونخبة الفلاحين ونخبة العمال ونخبة الموظفين وهكذا، أو تتولى قيادة المجتمع بأسره، وهنا نقول «النخبة الحاكمة» التي تقابلها بالضرورة «نخبة مضادة» تعارضها أو تطرح نفسها بديلاً لها، فحول هذه «النخبة القائدة» هناك دوما دوائر من النخب «غير القائدة» والفيصل بين الأولى والثانية هو حجم الفاعلية.

وبذا يتعدى تعريف النخبة مجال السيطرة السياسية لتنطبق على أي جماعة أو مجموعة من الأفراد أو صنف من الناس يمتلكون بعض الصفات والسمات التي يثمنها المجتمع ويقدرها، مثل الذكاء العقلي الفارق، والمراكز الإدارية الحساسة، والقوة العسكرية، والسلطة الأخلاقية، أو السمعة العالية والتأثير البالغ، بغض النظر عما إذا كانت التصرفات التي تصدر عنها إيجابية أم سلبية من وجهة نظر المجتمع.

ويبدو أن النهوض بمختلف مجالات الحياة قام على أكتاف مجموعات أكثر مهارة وبراعة وتنظيماً أبدعت في العلم والفكر والفن والإدارة والتخطيط، وكانت بمثابة القاطرة التي تجر بقية عربات المجتمع نحو الأمام. ولذا قد يكون من الطبيعي أن يقال إن النخب هي التي تصنع التاريخ، وأن غاية ما يتمناه أي مجتمع أن تكون هذه النخبة متفهمة أو متبنية لمطالب الجماهير، وحاملة أشواقهم إلى العدل والحرية والكرامة والكفاية. وحتى في أدنى حدود الفاعلية فإن مختلف النخب تمارس دوراً واسعاً في تشكيل القيم وتحديد اتجاهات قطاعات المجتمع التي تمثلها أو الميادين التي برزت فيها.

وفي المجال السياسي هناك عدة مفاهيم أطلقت على المجموعة المسيطرة في أي مجتمع، وهي «نخبة» و«نخبة حاكمة» و«النخبة السياسية» و«الطبقة السياسية» و«الأوليجاركية». فالمعطى التاريخي يقول بوضوح إن السلطة لا يمكن أن يمارسها الجميع، ولا بد من وجود مجموعة صغيرة أو ضيقة أو هيئة تقوم بإدارة شؤون المجتمع، وهذه ضرورة سواء في النظم الديمقراطية أو المستبدة. ونفوذ وسلطان الأقلية المنظمة يتفوق دوماً على نفوذ وسلطان الأكثرية المشتتة، ويجبرها على الخضوع لإرادة ومشيئة المنظمين المتماسكين.

فنظرية النخبة تؤمن بأن القوة في أي مجتمع مركزة في يد «قلة» وليست منتشرة في أيدي الأفراد بشكل غير متساو، لأن المجموعة المنظمة لديها من الركائز مثل الثروة والسلطة ونظم الاتصال، ولديها من الفاعلية ما يجعلها تتحكم في مصير الجماهير الغفيرة غير المنظمة، والتي يتكل بعضها على من يمسك بدفة الأمور، أو لا يرغب في الحكم أصلا أو لا يقدر عليه، أو قد يجبر على الرضوخ لإرادة هذه القلة التي تستخدم حيلاً كثيرة بغية السيطرة على الجموع المتشرذمة عبر التحكم في تدفق الأخبار والأفكار والمعلومات التي تشكل ذهنية، عابرة أو مستقرة، للرأي العام.

وقد تعود قوة الجماعة المسيطرة إلى الصفات التي يتسم بها الأفراد المشكلين لها أو إلى القدرات التنظيمية لها وتلاقي مصالح هؤلاء الأفراد وامتلاكهم العناصر والقيم الاقتصادية والعسكرية والرمزية التي تتحكم في تحديد «المعادلة السياسية» في المجتمع، أو يعود الأمر برمته إلى البراعة الفكرية والذهنية والطاقة النفسية لأفراد النخبة.

ورغم أن الثقافة العربية التي تضع هالة من الخصال الحميدة والتصورات والأفعال الحميدة حول كلمة «نخبة» التي تحال إلى الاصطفاء والانتقاء والامتياز والخيرية وحسن الخلق، فإن هناك من يستمر في تشويه النخبة غير مفرق بين مواقف واتجاهات أفرادها وتجمعاتها، وغير مميز للنخبة السياسية عن سائر النخب، هادفا بهذا إلى ترك الناس بلا قيادة لآرائهم وحركاتهم.

 

معاريف بريس

د. على عمار حسن ارشيف الكاتب

maarifpress.com

تعليقات الزوار
Loading...
footer ads

footer ads